مأتم رسمي وشعبي للمحامي منير البقاعي في سيدة النجاة
ودّغت نقابة المحامين والتجمع الزحلي العام ومدينة زحلة مفوض نقابة المحامين في زحلة، وأمين عام التجمع الزحلي المحامي منير البقاعي بمأتم رسمي وشعبي حاشد، وترأس الصلاة الجنائزية رئيس اساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم بمشاركة السادة الأساقفة جوزف معوض، انطونيوس الصوري وبولس سفر ولفيف الإكليروس الموقر.
حضر المأتم نقيب المحامين في بيروت الشيخ ناضر كاسبار، دولة الرئيس ايلي الفرزلي، النائب جورج عقيص ممثلاً رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، النائب سليم عون، وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، محافظ البقاع القاضي كمال ابو جودة، عضو المجلس العسكري اللواء بيار صعب، نائب رئيس الوحدة الصحية في قوى الأمن الداخلي العميد ادوار حداد، رئيس اقليم زحلة الكتائبي داني فياض ممثلاً رئيس حزب الكتائب اللبنانية النائب سامي الجميل، اعضاء التجمع الزحلي العام، اعضاء مجالس نقابة المحامين السابقين والحاليين، حشد كبير من محامي زحلة والبقاع، رؤساء الأقاليم الحزبية اضافة الى قيادات امنية وعسكرية وفعاليات اقتصادية واجتماعية واعلامية، كشاف التربية الوطنية، عائلة الفقيد والأصدقاء.
بعد الإنجيل المقدس رثا المطران ابراهيم المحامي البقاعي بكلمات مؤثرة فقال:
” إِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ… فإنَّ اللهَ يُحبُ المُعطي المُتَهلِّل.
(2 كور 9: 6 -7)
نجتمع هنا اليوم في ذكرى من زَرَعَ السنواتِ بالبركاتِ وجعلها في حياته أزمنةَ حصادٍ للخير والنِعَم. رجلٌ تمرس العطاء بحبٍ وفرح فأحبه الله وحباه قامةَ الكبار، إنه الأستاذ المتوشحُ بوشاح الحق والعدالة المحامي الراحل منير البقاعي، مفوض نقابة المحامين في قصر عدل زحلة، الذي ترك وراءه إرثاً عظيمًا في قلوبنا وفي قلب كل من كان يزوره أو يقصده. هو المِعطاءُ الخدومُ الذي نشر العدل والمحبة لكل من التقاه. إنه القلبُ المجبول بالطيبة والتواضع، الذي نذر نفسه لخدمة العدالة بإعلاء صوت الحق وتطبيق القوانين.”
واضاف” إن أردنا إنصاف هذا العظيم، تلزمنا رِبواتٌ من الكلمات لأنه كان رَجُلَ لباقةٍ ولياقة يزرع العدل فيحصِدُهُ حرية. وكم نحنُ بحاجة في هذه الأيام العصيبة لأمثاله من زرّاعي الفكر النير في العقول المستقيلة. هذا الوجه البشوش تحول إلى رمز للأمل المشتهى بوطنٍ جامع لكل من يلتقيه من مختلف الانتماءات والتوجهات، فالمحبة لا تميز ولا تُفرِّق.
منير البقاعي كان رجل القانون الصادق والرادعِ للظلم. إنه قامةٌ قانونية شامخة متوجةٌ بالصدق والتواضع، ذلك لأنه أدرك أن المحامين ليسوا مجرد ممثلين قانونيين، بل هم أيضًا وسطاء أخلاقيين يجب أن يعملوا بنزاهة وأمانة لضمان تحقيق العدالة وحماية حقوق عملائهم.
المحاماة لم تكن له مهنة، بقدر ما كانت رسالة. بدا ذلك جلياً في لهفته على مساعدة الاخرين، إذ أنه لم يتوانَ يوما عن خدمة مجتمعه وأهله في زحله والقضاء. هذا ما جعلَه مميَزاً في أدائه المنبثق من عمق إيمانه وثقافته الإنسانية والمهنية. هكذا كان الأستاذ منير حصّادا لِما زرع. حصد الكثير من محبة الناس وتقديرهم ومحبتهم فلم يدخل في سجال مع أحدٍ قط ولم نسمع عنه إلا كلماتٍ طيبة عن سيرته الحسنة.
الأصالة في العمل والخدمة العامة هما من صفات عائلته وهما الكنز الذي ورثَه عن جده داوود رزق، رئيس بلدية جب جنين، الذي كان مرجعيةً سياسية في المِنطقة، وعن والدِه طانيوس، الذي كان مفوضَ قصرِ العدل في زحلة.”
واردف سيادته ” هو تلميذ الكلية الشرقية وأحدُ تلامذةِ الكبير سعيد عقل. تسلم مراكز قيادية منذ صغره حتى انتسابه لنقابة المحامين، التي يترك فيها فراغا كبيراً، إلى تسلمه منصب أمين عام التجمع الزحلي العام، فكان له دورٌ هام في إنماء زحلة. كان يمول بعض التجهيزات من ماله الخاص أو يبحث عن تبرعات لتنفيذ مشاريع بنية تحتية في قصر عدل زحلة بالتعاون مع بلدية زحلة، مثل توفير مولد كهربائي لقصر عدل زحلة وإصلاح بعض قاعات المحكمة والطوابق في القصر.
إن ما قدمه هذا الأستاذ الكبير للقانون والنقابة هو من فيض ما في داخله من إيمان ومحبة أنتجا حرصا على راحة الآخرين رغم كل الظروف الصعبة والعقبات الكبيرات.
كان الأستاذ منير حريصا وملتزمًا بالحضور إلى مركز النقابة في زحلة، حتى آخر أيامه، انطلاقا من إيمانه الراسخ بأهمية تسيير شؤون قصر العدل وشؤون المحامين.”
وتابع المطران ابراهيم ” أيها الأحباء بالمسيح، بعد عرضِ بعضَ فضائلِ راحلنا الغالي، تُعزينا كلمات القديس بولس الذي قال: نحنُ نَعرِفُ أنَّهُ إذا تَهدَّمَتْ خَيمَتُنا الأرضِيَّةُ الّتي نَحنُ فيها، فلَنا في السَّماءِ بَيتٌ أبَدِيٌّ مِنْ بِناءِ اللهِ غيرُ مَصنوعٍ بالأيدي. كورنثوس 5: 1
أخانا منير صار في بيته الأبدي الذي هو مِنْ بِناءِ اللهِ غيرُ مَصنوعٍ بالأيدي، حيث المحبةُ تختصرُ كلَّ الشرائع التي لا يعرفُ أبناؤها الموت أبدا.
فإن الراحل الذي عمل بكلام الله ووصاياه وبذل نفسه في الخدمة فلن يرى الموت أبداً، بل يبقى حياً في قلوبنا وقلوب الكثيرين.”
وختم معزياً ” بإسمي الشخصي وبإسم السادة الأساقفة واخوتي الكهنة أُعزَّي اليومَ زوجة الفقيد المحامية آمال ميشال الحاج وكل أفراد عائلته ونقابة المحامين وعموم الأقرباء والأصدقاء وكل الحاضرين؛ مُصلِّيًا أَن يَمُنَّ الربُّ القديرُ عليهمِ بالسُلوانِ. وأَخْتِم هاتِفًا نشيدَ الانتصار: المسيحُ قامَ! حقًّا قامَ!”
وفي نهاية الصلاة الجنائزية القت المحامية ميسم يونس سكاف كلمة نقابة المحامين، وجاء فيها” شرفني حضرة نقيب المحامين في بيروت الأستاذ ناضر كسبار لتمثيلهِ وتمثيلِ مجلسِ النقابة في وداعِ كبيرٍ من كبارِنا ومقيمٍ في قلوبِنا وصخرةٍ من قلاعِنا، الحبيب الغالي الأستاذ منير البقاعي.
فماذا عساي أقولُ عن البقاعي المنيرْ، عن هذهِ المنارةِ النيّرة من وطني، من أرضي، من بقاعي ومن نقَابتي.
“ما كنتُ أحسَبُ قبل دفنِك في الثرى
أن الكواكب في التراب تغور” (المتنبي في رثاء الامير التنوخي)
عزيزٌ غيابك عنا أستاذ منير،
تمامًا كما هو عزيزٌ في عيني الرب موت اتقيائه.
ويعزُ علينا اليوم أن ندخلَ زحلة، وقصرَ العدل ومركزَ النقابة في زحلة وانت غائبٌ عنها،
ولكنَك مازلت هنا فالجدران تهمس بإسمك والمكتبة تتحدث برخامة صوتك وفي الأذن يتلألأ صدى ضحكتك، قلّة هم الراحلون المقيمون.
فيا أبنَ البقاعِ، وزحلةٌ بك رفعت ذراعها مبدعًا كبيرًا، هي اليومَ حزينةٌ، حزينة تبحثُ عنك وتبكي منيرًا.”
واضافت ” استدعي الأستاذ منير الى جوار الاب السماوي ولا نعترض على ذلك ولكن في القلب غصة وفي العين دمعة، هو المحامي الألمعي أبن جب جنين، الذي عاش في مدينة زحلة ومنها الى بيروت حيث نال شهادة الحقوق من جامعة القديس يوسف سنة 1965، وتسجل كمحام متدرج في مكتب والده الاستاذ طانيوس البقاعي وانتقل الى الجدول العام سنة 1969 ومارس المحاماة في مكتبه في زحلة حيث تمرس في المهنة الى جانب عدد كبير من الزملاء المحامين من منطقة زحلة والبقاع.
وبعد خمسين عامًا على ممارسة المهنة مُنح الميدالية الذهبية من مجلس نقابة المحامين في بيروت.
وكما كان جدّه المحامي ممثلاً للنقابة في زحلة، بقي الأستاذ منير ممثلاً لهذه النقابة لأكثر من ثلاثين عامًا، عاصر خلالها العديد من المحامين المخضرمين والشباب، رافق العديد في النقباء والمرشحين الى مجلس النقابة وبفرح قدم الخدمة والمشورة،
فحضورُه أغنى المبنى والمعنى،
أنشأ مكتبةً فريدةً بمراجعِها أصبحت منارةً للعلمِ والثقافة، تلك الثقافة التي نهلَ من منبعِها منذ نعومةِ أظافرهِ فكان المحامي والشاعر والخطيب الذي شرّفَ المنابرَ وأغناها.
وبحضورهِ أصبح مركزُ النقابةِ في زحلة مقصدًا لمحامي البقاع من وسطِه الى غربِه وشمالِه، ينبضُ على أواصرِ التفاهم ومبادئِ وأصولِ المهنة ومستقبَلها.
هو شيخ المحامين الأولى بوفائهم صانوا القضاء محاجةً ومصيرًا.
ستشتاقُ اليك هذه الأماكن وسيفتقدُك أهلها،
زرعتَ بذورَ المحبةِ والاحترام في ذهنِ كلِ من عرفَك، وقد جاؤوا كثرٌ اليوم لوداعك.”
وتابعت سكاف ” سنفتقدك أيها الماردِ المقدام الذي واجه الحياة وعشقَها، وخاض غمارَ المهنة وشرّفها وكان مثالاً للحكمة والاتزان والاستقامة.
سنَفتقدك أيها الفارسُ الوسيم الذي ترجلَ عن صهوةِ تاريخٍ عائليٍ ونقابي عريق ليستريحَ في جوارِ ربه حيثُ لا حزنَ ولا صراخَ ولا وجع، وسيمسح الله كُلَ دمعةٍ من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد.
بغياب الأستاذ منير البقاعي يطوي البقاعُ فصلاً مجيدًا من تاريخه، ومحامو البقاع يفقدون أبًا صالحًا حَضَنَ جميعَ أبنائه دون تمييز، وأنا شخصيًا سأفتقد صديقًا وأخًا وسندًا.
أيها الحصنُ المنيع العابرِ للطوائفِ والمناطق، الذي ألهمَ واستلهمَ من لغةِ المحبةِ التي حدثنا عنها بولس الرسول في رسالته الى أهل كورنتوس حين قال:
“المحبةُ تتأنى وترفق، المحبةُ لا تحسُدْ ولا تتفاخرْ، ولا تنتفخْ ولا تقبحْ ولا تطلبْ ما لنفسِها ولا تحقدْ ولا تظنُ السوءَ ولا تفرحْ بالأثم بل تفرحُ بالحق وتصبر على كل شيء”.
يرحل الأستاذ منير اليوم حزِينًا على هذا الوطنِ الجريح، المذبوحِ من الوريد الى الوريد، هو من ناضل وجاهرَ في كلِ مناسبةٍ مطالبًا بتلبيةِ الاستحقاقات الوطنية وبإرساء دولةِ القانونِ والمؤسسات.
يرحلُ حزينًا على الوطن ولكن مطمئنًا على الامانة التي تركها بين يدي عائلةٍ كريمة وسيدةٍ فاضلة، هي الزميلةُ الحبيبة امال، التي عاشت معه كتوأمِ روحِه وهي ستحملُ لنا دومًا ذكراهُ وخميرةِ عطرهِ، وجمالِ روحِه، وهدوءِ الموجِ الأزرقِ في عينيه.”
وختمت ” أيها الراحل الكبير، سيبقى نجمُك ساطعًا، مضيئًا في سماءِ البقاع، ووجهُك مشعًا مع كل اشراقةٍ من شمس سهلِه ومن قلعةِ بعلبك الى جبلِ الشيخ سيبقى أسمُك كالأرزِ مزروعًا في أعالي قممه.
نودعك اليومَ بالحزنِ والبكاء أما في السماءِ فعرسٌ ولقاء في استقبال عريسِ نقابة المحامين في بيروت والبقاع، ونترافقُ معك في المشوارِ الأخير من زحلة الى بلدتكِ جب جنين التي تعودُ الى أحضانها حاملاً مصباحَك المضيء، مزودًا بالوزناتِ الصالحة الى لقاءِ العريس.
بإسم سعادة نقيب المحامين في بيروت الذي شرفني وكلفني تمثيلَه في هذا المأتم المهيب وبإسم اعضاءِ مجلسِ النقابة، وبإسمي الشخصي أتقدم من الزميلة العزيزة امال زوجة الراحلِ الكبير ومن عائلةِ البقاعي الكريمة ومن محامي البقاع الأوسطِ والغربي والشمالي ومن مدينتي زحلة وجب جنين وأهلهما وكلُ مَن عرفه وأحبه، بأصدقِ التعازي وأحرِّها.
كنتَ شهمًا ونبيلاً وستبقى حيًا في قلوبنَا الله معك أستاذ منير.”
وختمت سكاف بأبيات شعرية وقالت
” شيخَ المُحَامينَ الأُلى بِوفائهم صانوا القضاءَ مَحاجةً أَنَصِيرا
يا ابنَ البقاعِ وزحلةٌ بِك لِلعُلى رَفَعَت ذُراها.. مُبدِعاً وكَبيرا
يا ساعداً لجميعِ اربابِ النُهى بين المحامين اعتليت قديرا
بالشعر بالترنيم كنت محلّقاً مَن جاد صُنُوكَ ؟ من نَوَدُّ نَظيرا
يا مرجِعاً في الحَقِّ إنك خالدٌ وتَظلُّ ما طالَ الفراقُ … مُنيرا
ووري جثمان الفقيد في مدافن العائلة في بلدة جب جنين.