خطبة الجمعة للشيخ الخطيب
ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع الانبياء والمرسلين والشهداء والصالحين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال تعالى في كتابه العزيز: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).
تتحدث هذه الاية المباركة عن العلاقة بين الايمان والتقوى وبين الرخاء الاقتصادي والاجتماعي للأمم والمجتمعات والترابط بين الأمرين، كما تتحدث عن الحالة المعاكسة والآثار الاقتصادية والاجتماعية للكفر وحالة التفلّت المسلكي والتصرف غير الملتزم بالضوابط التي يفرضها الايمان.
فالوضع الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي يقرره بحسب الآية أمران: الأول الايمان والثاني التقوى، والاخلال بهما أو بأحدهما يوجب الاخلال بالوضع الاقتصادي وبالاستقرار الاجتماعي، وهو ما يظهر من الآية المباركة في جزئها الثاني بقوله تعالى (وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)، والتكذيب هو انعدام شرط الايمان والتقوى وعاقبته هو الأخذ، والأخذ هو العقوبة بسلب هذه النعمة نعمة الرخاء الاقتصادي والأمن والاستقرار الاجتماعي.
لقد حاولت أيها الاخوة والاخوات النظريات الاجتماعية المادية تفسير ظاهرة التحولات الاقتصادية والاجتماعية بإرجاعها الى انعدام العدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروة وحاولت بناءً على هذا التفسير حل هذه المعضلة عن طريق ابتداع نظريات اجتماعية كان أبرزها إثنتان تمثلاتا بالنظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، ولكنهما لم يفشلا فقط في تحقيق العدالة الاجتماعية والاستقرار الاجتماعي بل أضافا إليها مشاكل أشد تعقيداً وقسّما العالم الى قسمين: الدول الغنية والمتقدمة وهي الدول الصناعية، والدول الفقيرة التي أُصطلح على تسميتها بالعالم الثالث، فضلاً عن الفروقات الطبقية والتمييز العنصري التي أوجدتها في داخل كل دولة من دول العالم ، وأدخلت العالم في صراعات على النفوذ والاستعمار للسيطرة على الثروات الاستراتيجية كالبترول والغاز واليورانيوم والمعادن واحتكرت لنفسها الصناعات والتجارة، وحوّلت البلاد المغلوب على أمرها الى سوق استهلاكية لتصدير منتجاتها وصناعاتها، وخلق صراعات إقليمية لبيع أسلحتها.
وهكذا تحوّلت هذه الدول الى دول تابعة وملحقة سياسياً واقتصادياً وفاقدة للأمن الاجتماعي والاقتصادي، وذهبت كل النظريات الاجتماعية التي أتحفنا بها المنظّرون الاجتماعيون الماديون لتحقيق العدالة الاجتماعية والأمن والاستقرار ذهبت كلها أدراج الرياح، وتبيّن أن هذه النظريات ليست إلا من أجل خلق الظروف الملائمة التي تُتيح للغرب بشكل خاص الوصول الى غاياته الخبيثة، وهي السيطرة على العالم وضرب أي حالة يمكن أن تشكّل قوة مقاومة أو ممانعة له.
وبغض النظر عن النتائج العملية لهذه النظريات التي تعاملت مع المجتمعات البشرية كما تتعامل مع الطبيعة بإخضاعها للقوانين المادية البحتة، وأغفلت الجانب البشري والانساني والقيم الاخلاقية والمعنوية والروحية التي لا يجوز التعامل معها تعاملاً مادياً محضاً، وهذه النظريات الاجتماعية المادية بالمناسبة لم تشكّل إبداعاً فكرياً للغرب يُعطي حلاً جديداً، وإنما كانت تفسيراً لتجارب اجتماعية عاشتها البشرية ألبستها ثوباً فلسفياً كما هو الحال في اكتشاف القوانين الفيزيائية والاستفادة منها في مجال الصناعات على خلاف النظرة القرآنية للمشكلة الاجتماعية التي تميّز بين القوانين الفيزيائية والاستفادة منها في مجال تطوير الصناعات لخدمة الانسان وبين المشكلة الاجتماعية التي لا يجوز فيها استنساخ القوانين التي تحكم الغابات والقائمة على أساس الصراع وأن البقاء للأقوى وتطبيقها على الساحة الاجتماعية والتسابق على تطوير الصناعات ومنها الأسلحة الأشد فتكاً من أجل استخدامها للغلبة والسيطرة التي لا تقوم على أساس الاعتقاد بوجود خالق لهذا الكون ومنه الإنسان الذي له وظيفة الخلافة لله تعالى في الأرض التي تجعل من الإنسان أرقى المخلوقات وأنه مسؤول عن تطبيق العدالة الإلهية (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) وأن الارقى هو الأتقى وليس المُتغلّب أو الأقوى بالمنطق المادي (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وان المنطق الذي يجب ان يحكم العلاقات الإنسانية هو منطق التعاون والمسارعة الى الخيرات والإحسان (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
أيها الاخوة والاخوات، فمنطق الصراع والغلبة هو منطق الإثم والعدوان (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ( أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ) (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )، ومنطق شكر النعم (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) وليس منطق النكران واستخدامها في سبيل القهر (وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) والعذاب هنا والله العالم هو الأعم من العذاب الأخروي والدنيوي من إزالة النعم وفقدان الأمن وتسلّط الظالمين. بينما شُكر النعم وهو حفظها وتعميميها على الناس سبب للزيادة وهو ما يتلاقى مع الآية التي تلوناها في بداية هذا الحديث وهو قوله تعالى:(ولو أن الناس أمنوا واتقوا لأنزلنا عليهم بركات من السماء والأرض) والتقوى هنا تشمل استخدام المال في خدمة الانسان.
ولذلك فإنّ التحولات الاجتماعية في الواقع محكومة للعامل الاقتصادي المحكوم الى مبدأ أعلى وهو الايمان بالله تعالى والكفر به.
إننا نرى في الواقع أن الكثيرين من الموسَرين الذين يقع على عاتقهم في وقت الشدة والعسر الانفاق مما أعطاهم الله تعالى وأنعم به عليهم يحجمون عن البذل والعطاء لمساعدة المحتاجين بحجة الخوف من نفاذ المال وخوفهم من الفقر، وهذا خلاف الايمان وهو امتحان لإيمانهم، فالله تعالى يقول (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم) (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، فهؤلاء الذين يحجمون عن الانفاق في وقت العسر والشدة فقدوا الايمان بوعد الله تعالى وآمنوا بالشيطان وجعلوه ولياً لهم الذي يعدهم الفقر ويخوّفهم به (إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) والله تعالى يأمر ألا يخافوه (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ)، فإنّ الحقّ ان تخاف الله تعالى الذي يعد الفقر لمن لا ينفق في سبيله ولا يشكر نعمة الله عليه، (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). إنّ سقوط المجتمعات الاقتصادي وألامني مردّه الى انعدام الايمان والتقوى وليس القوة المادية قوة أو ضعفاً.
أيها الاخوة المؤمنون.. إنّ القوة التي تلوذون بها اليوم إن لم تستند الى قوة الإيمان والى تقوى الله تعالى لن تُغني عنكم من الله شيئاً، فقد كنتم تفتقدونها ولم يكن لكم إلا إيمانكم الذي اتكلتم عليه ونصركم به الله على عدوّكم بإخلاصكم وتضحياتكم له، ولئن اعتقد عدوكم أن قوتكم هي بما تمتلكونه من أسلحة دقيقة فهذا جيد، ولكن لا تفقدوا إيمانكم بأنّ القوة هي قوة الإرادة التي تحمل السلاح وتناجز العدو، هذه الإرادة المستندة الى الإيمان بأنّ القوة لله جميعاً وأن النصر بيد الله تعالى مع أن تحصيل قوة السلاح أمر ضروري (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) فهو سلاح معنوي نفسي لكن السلاح الأمضى هو سلاح الإيمان، سلاح التقوى، سلاح الإرادة، ولذلك اعتقدوا أن سلاح الحصار الاقتصادي والتجويع الذي يلجأ إليه العدو ما هو إلا سلاح وهمي طالما لم تضعف إرادتكم ولم يضعف إيمانكم بالاعتماد على الله سبحانه وتعالى.
فأنتم تملكون اليوم سرّ النصر الإلهي والتحول من الفقر الى الغنى ومن الضعف الى القوة ومن الاستضعاف الى تحقيق العدالة ومن الحصار الى كسر هذه المعادلة، ولكن المسألة تحتاج الى الصبر(اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الصبر على الافتئات الداخلي والصبر على ظلم ذوي القربى والصبر على مواجهة العدو، والتقوى في الاستقامة على طريق الهدى والالتزام بحدود الله تعالى بأداء الواجبات وعلى رأسها الصلاة وبرّ الوالدين وحقوق الجيران وحقوق المؤمنين وخفض الجناح لهم، ومواساة المحتاج والإحسان الى الناس، وعفّ البطن والفرج عن الحرام والعفو عن الإساءة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون) وإنّ احقّ الناس بالتقوى هم الذين يملكون أمر العباد والبلاد فاتقوا الله أيها اللبنانيون فأنتم المسؤولون عمّا آلت إليه أموركم إذ أعطيتم قيادكم الى الفاسدين الذي يزرعون فيكم الخوف من بعضكم البعض باسم الطائفية ليتسنّى لهم المزيد من الفساد، واتحتم لهم الفرصة لنهب مدّخراتكم فكيف تطلبون منهم تحمّل مسؤولية الإصلاح، فليس للإصلاح إلا طريق واحد وهو الخروج من كهوف الطائفية الى المواطنة والانقسام، فهو السبيل الوحيد للتخلص من التشرذم والانقسام الذي أضعفكم عن القيام بالإصلاحات الضرورية ومكّن هؤلاء الطائفيين من العبث بحاضركم وسيمكّنهم من العبث بمستقبلكم وستبقون في هذه الدوامة من المشاكل الداخلية، طالما تمسكتم بالطائفية ولم تخرجوا منها الى رحاب الوطن.
إنّ الأوضاع السيئة التي تعانون منها من انهيار الدولة والمؤسسات خلا الأمنية منها حتى الآن وسقوط الليرة اللبنانية وانعدام الحياة الكريمة لم يدفع هؤلاء الى تأليف حكومة ضرورية في الأوضاع الحالية ، والاسوأ ان لا يقدموا على انتخاب رئيس للجمهورية لأنهم مطمئنون انكم لن تستطيعوا فعل شيء، لأنهم أقنعوكم وهماً بأنّ ملاذكم الطائفة وليس الوطن، ولن يألوا جهداً على مواجهة أي محاولة لفكّ هذا الحصار المضروب على عقول اللبنانيين دفاعاً عن مصالحهم لأن بقاءهم في السلطة مرهون بهذا الواقع، لذا فأنتم مدعوون الى التلاقي والخروج من هذا الوهم الذي انغرس عميقاً في قناعاتكم. وهو ما يراهن عليه العدو في المماطلة وعدم الاستجابة الى مطلب لبنان في الاستفادة من ثرواته البحرية، الامر الذي يدعونا جميعاً الى التمسك بحقوقنا واجبار العدو واخضاعه واستنقاذ حق لبنان من بين انياب هذا الوحش الكاسر.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ